تخطى إلى المحتوى

رواية عائد إلى حيفا كامله 2024

رواية عائد إلى حيفا

غسان كنفاني
-(1)-

حين وصل"سعيد س." إلى مشارف حيفا، قادما إليها بسيارته عن طريق القدس، أحس أن شيئا ما ربط لسانه، فالتزم الصمت، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل.وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت، وفجأة جاء صوت البحر، تماما كما كان. كلا،لم تعد إليه الذاكرة شيئا فشيئا. بل انهالت في داخل رأسه، كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداث فجأة، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده. وقال لنفسه أن"صفية"زوجته، تحس الشيء ذاته، وأنها لذلك تبكي.
منذ أن غادر رام الله في الصباح لم يكف عن الكلام، ولا هي كفت، كانت الحقول تتسرب تحت نظرة عبر زجاج سيارته، وكان الحر لا يطاق، فقد أحس بجبهته تلتهب، تماما كما الإسفلت يشتعل تحت عجلات سيارته، وفوقه كانت الشمس، شمس حزيران الرهيب، تصب قار غضبها على الأرض
طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم، تحدث إلى زوجته عن كل شيء، عن الحرب وعن الهزيمة وعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات. وعن العدو الذي وصل إلى النهر والقناة ومشارف دمشق خلال ساعات. وعن وقف إطلاق النار والراديو ونهب الجنود للأشياء والأثاث، ومنع التجول، وابن العم الذي في الكويت يأكله القلق، والجار الذي لم أغراضه وهرب، والجنود الثلاثة الذين قاتلوا وحدهم يومين على تله تقع قرب مستشفى أوغستا فكتوريا، والرجال الذين خلعوا بزاتهم وقاتلوا في شوارع القدس، والفلاح الذي أعدموه لحظة رأوه قرب أكبر فنادق رام الله. وتحدثت زوجته عن أمور كثيرة أخرى، طوال الطريق لم يكفا عن الحديث. والآن، حين وصلا إلى مدخل حيفا، صمتا معا، واكتشفا في تلك اللحظة أنهما لم يتحدثا حرفا واحدا عن الأمر الذي جاءا من أجله !
هذه هي حيفا إذن، بعد عشرين سنة.
ظهر يوم الثلاثين من حزيران، 1967، كانت سيارة"الفيات"الرماية التي تحمل رقما اردنيا أبيض تشق طريقها نحو الشمال، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة، وتتسلق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي. وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهارت الجدار كله، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع، وجد نفسه يقول لزوجته (صفية ):
-" هذه هي حيفا يا صفية !"
وأحس المقود ثقيلا بين قبضتيه اللتين أخذتا تنضحان العرق أكثر من ذي قبل، وخطر له أن يقول لزوجته :" إنني أعرفها، حيفا هذه، ولكنها تنكرني" ولكنه غير رأيه، فقبل قليل فقط كانت فكرة قد خطرت له وقالها لزوجته :
-" أتعرفين ؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبدا أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهينا تماما … قد أكون مجنونا لو قلت لك أن كل الأبواب يجب الا تفتح الا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة".
والتفت إلى زوجته، إلا أنها لم تكن تسمع، كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق : تارة إلى اليمين حيث كانت المزارع تمتد على مدى البصر وتارة إلى اليسار حيث كان البحر، الذي ظل بعيدا أكثر من عشرين سنة، يهدر على القرب. وقالت فجاءة :
-" لم أكن أتصور أبدا أنني سأراها مرة أخرى".
وقال :
-" أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك".
وعندها فقدت أعصابها، كان ذلك يحدث للمرة الأولى. وصاحت فجاءة :
-" ما هذه الفلسفة التي لم تكف عنها طوال النهار؟ الأبواب والرؤيا وأمور أخرى، ماذا حدث لك؟".
-" ماذا حدث لي؟".
قالها لنفسه وهو يرتجف، ولكنه تحكم بأعصابه وعاد يقول لها بهدوء :
-" لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ، أتعرفين الشيء الفاجع الذي حدث في نيسان 1948، والآن، بعد لماذا؟ لسواد عينيك وعيني؟. لا. ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا… ولكن رأيت بنفسك : لم يتغير شيء … كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير …"
-"إذن لماذا أتيت ؟"
ونظر إليها بحنق، فصمتت.
كانت تعرف، فلماذا تسأل؟ وهي التي قالت له أن يذهب، فطوال عشرين سنة تجنبت الحديث عن ذلك، عشرين سنة ثم ينبثق الماضي كما يندفع البركان
وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك، بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة، وبدت له الوجوه قاسية وحشية، وبعد قليل اكتشف أنه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئا في الشوارع قد تغير. كان يعرفها حجرا حجرا ومفرقا وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطرق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946. إنه يعرفها جيدا، والآن يشعر بأنه لم يتغيب عنها عشرين سنة، وهو يقود سيارته كما كان يفعل، كما لو أنه لم يكن غائبا طوال تلك السنوات المريرة !
وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار : وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار، واختلطت عليه الأمور فجاءة، ولكنه تماسك، وسأل زوجته بصوت خافت :
-"
حسنا، من أين نبدأ؟".
ولكنها ظلت صامته. وسمع صوتها الخافت يبكي بما يشبه الصمت، وقدر لنفسه العذاب الذي تعانيه، وعرف أنه لا يستطيع معرفة العذاب على وجه الدقة، ولكنه يعرف أنه عذاب كبير، ظل هناك عشرين سنة، وأنه الآن ينتصب عملاقا لا يصدق في أحشائها، ورأسها، وقلبها، وذاكرتها، وتصوراتها، ويهيمن على كل مستقبلها. واستغرب كيف أنه لم يفكر أبدا بما يمكن أن يعينه ذلك العذاب، وبمدى ما هو غارق في تجاعيد وجهها وعينيها وعقلها. وكم كان معها في كل لقمة أكلتها، وفي كل كوخ عاشت فيه، وفي كل نظرة رمتها على أولادها وعليه وعلى نفسها. والآن ينبثق ذلك كله من بين الحطام والنسيان والأسى، ويأتي على ركام الهزيمة المريرة التي ذاقها مرتين على الأقل في حياته.
وفجاءة جاء الماضي، حادا مثل سكين : كان ينعطف بسيارته عند نهاية شارع الملك فيصل (فالشوارع بالنسبة له لم تغير أسماءها بعد) متجها نحو التقاطع الذي ينزل يسارا إلى الميناء، ويتجه يمينا نحو الطريق المؤدي إلى وادي النسناس، حين لمح مجموعة من الجنود المسلحين يقفزون على المفترق أمام حاجز حديدي. وحين كان يرمقهم بطرف عينيه، صدر صوت انفجار ما من بعيد، وأعقبته طلقات رصاص وفجأة أخذ المقود يرتجف بين يديه، وكاد أن يرطم الرصيف، وتماسك في اللحظة الأخيرة، وشهد صبيا يعدو عبر الطريق، وعندها جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه. ولأول مرة منذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل، وكأنه يعيش مرة أخرى.

صباح الأربعاء، 21 نيسان، عام 1948.
كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئا، رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض.
وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت قذائف الموتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية.
وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى، واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها
كان ( سعيد. س ) في قلب المدينة، حين بدأت أصوات الرصاص والمتفجرات تملأ سماء حيفا، كان قد ظل حتى الظهر غير متوقع أن يكون ذلك هو الهجوم الشامل و عندها فقط حاول للوهلة الأولى أن يعود إلى البيت بسيارته. إلا أنه ما لبث أن اكتشف استحالة ذلك، فمضى عبر شوارع فرعية محاولا اجتياز الطريق إلى (( الحليصة)) حيث يقع منزله، إلا أن القتال كان قد اتسع، وصار يرى الرجال المسلحين يندفعون من الشوارع الفرعية إلى الرئيسية وبالعكس، وكانت تحركاتهم تسير وفق توجيهات بمكبرات الصوت تنبثق هنا وهناك. وبعد لحظات شعر سعيد أنه يندفع دونما اتجاه، وأن الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود إنما تدفعه دون أن يحس، نحو اتجاه وحيد، وفي كل مرة كان يحاول العودة إلى وجهته الرئيسية، منتقيا أحد الأزقة، وكان يجد نفسه كأنما بقوة غير مرئية يرتد إلى طريق واحد، ذلك هو المتجه نحو الساحل.
كان قد تزوج فبل عام وأربعة أشهر منصفية، واستأجر بيته الصغير في تلك المنطقة التي حسب أنها ستكون أوفر أمنا، وفجأة يشعر الآن بأنه لا يستطيع الوصول إليه.. كان يعرف أن زوجته الصغيرة لا تستطيع أن تتدبر أمرها، فمنذ أن جاء بها من الريف لم تعتد أن تقبل العيش في المدينة الكبيرة، أو أن تكيف نفسها مع ذلك التعقيد الذي كان يبدو راعبا لها، وغير قابل للحل، ترى ما الذي يمكن أن يحدث لها الآن ؟.
كان ضائعا، تقريبا، ولم يكن يعرف على وجه التعيين أين يحدث القتال وكيف، وفي كل حدود علمه أن الإنكليز كانوا ما زالوا يسيطرون على المدينة، وأن الأحداث في شكلها النهائي كان مقدرا لها أن تقع بعد ثلاثة أسابيع تقريبا، حين يشرع البريطانيون في الانسحاب حسب الموعد الذي حددوه.

ولكنه فيما كان يسارع الخطو كان يعرف تماما أن عليه أن يتجنب المناطق المرتفعة المتصلة بشارع هرتزل، حيث كان اليهود يتمركزون منذ البدء، ومن ناحية أخرى كان عليه أن يبتعد عن المركز التجاري الذي يقع بين حارة الحليصا وبين شارع اللنبي، فقد كان ذلك المركز نقطة القوة في السلاح اليهودي.

وهكذا اندفع محاولا الدوران حول المركز التجاري كي يصل إلى الحليصا، وكانت أمامه طريق تنتهي بوادي النسناس، وتمر عبر المدينة القديمة.
وفجأة اختلطت عليه الأمور وتشابكت الأسماء: الحليصا، وادي رشميا، البرج، المدينة القديمة، وادي النسناس، شعر أنه ضائع تماما، وأنه فقد وجهة سيره. كان القصف قد اشتد، ورغم انه كان بعيدا بعض الشيء عن مراكز الإطلاق إلا أنه استطاع أن يميز جنودا بريطانيين يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ أخرى.
ويبدو أنه، بصورة ما، وجد نفسه في المدينة القديمة، ومنها اندفع كأنما بقوة لا يعرفها، نحو جنوب شارع ستانتون، وكان يعرف الآن أنه يبعد أقل من مئتي متر عن شارع الحلحول، وبدأ يشم رائحة البحر.
وعندها فقط تذكر"خلدون"الصغير، ابنه الذي اتم في ذلك اليوم بالذات شهره الخامس، وانتابه فجأه قلق غامض. ذلك هو الشيء الوحيد الذي ما زال يحس بطعمه تحت لسانه، حتى في هذه اللحظات التي تبعد عشرين سنة عن المرة الأولى التي حدث فيها ذلك.
هل كان يتوقع تلك الفجيعة ؟ الأمور هنا تختلط. الماضي يتداخل مع الحاضر، وهما يتداخلان مع أفكار وأوهام وتخيلات ومشاعر عشرين سنة لاحقة، هل كان يعرف ؟ هل أحس ذلك الشيء الفاجع قبل أن يحدث ؟ أحيانا يقول لنفسه"بلى، عرفت ذلك قبل أن يحدث"وأحيانا أخرى يقول لنفسه :" لا. أنا أتصور ذلك بعد أن حدث، لم يكن من المتوقع أن أتوقع شيئأ مروعا من ذلك النوع".
كان المساء قد بدأ يخيم على المدينة، ليس يدري كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها، مرتدا عن شارع الى شارع، أما الآن فقد بات واضحا أنهم يدفعونه نحو الميناء، فقد كانت الأزقة المتفرعة عن الشارع الرئيسي مغلقة تماما، وكان إذ يحاول الاندفاع في أثرها ليتدبر أمر عودته الى بيته، يزجرونه بعنف، واحيانا بفوهات البنادق وأحيانا بحرابها
كانت السماء نارا تتدفق بأصوات رصاص وقنابل وقصف بعيد وقريب، وكأنما هذه الأصوات نفسها كانت تدفعهم نحو الميناء. ورغم أنه كان غير قادر على التركيز على أيما أمر معين، إلا أنه رأى كيف بدأ الزحام يتكاثف مع كل خطوة. كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلك الشارع الرئيسي المتجه الى الميناء، رجالا ونساء وأطفالا، يحملون أشياء صغيره أو لا يحملون، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح. وضاع بين أمواج البشر المتدفقه وفقد القدرة على التحكم بخطواته. إنه ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر وكأنه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول، غير قادر على التفكير في أي شيءء، وفي رأسه كان ثمة صورة واحده معلقة كأنما على جدار: زوجته صفية وابنه خلدون.

لقد مضت اللحظات بطيئة وقاسية وتبدو الآن مجرد كابوس ثقيل لا يصدق. اجتاز البوابة الحديدية للميناء حيث كان جنود بريطانيون يزجرون الناس، ومن هناك رأى أكوام البشر تتساقط فوق الزوارق الصغيرة المنتظرة في الماء قرب الرصيف، ودون أن يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل، قرر ألا يصل الى الزوارق وفجأة –كمن أصيب بالجنون، او كمن عاد اليه عقله دفعة واحدة بعد جنون طويل – استدار وسط الزحام، وأخذ يدافعه محاولا بكل ما فيه من قوة مستنزفة أن يشق طريقة وسطه، عكسه، نحو البوابة الحديدية.
مثل من يسبح ضد سيل هادر ينحدر من جبل شديد العلو أخذ سعيد يشق طريقة بكتفيه وذراعية وساقيه ورأسه. يجره التيار خطوات الى الوراء فيعود ويتقدم مندفعا بشيء من الوحشية مثل حيوان طريد يشق طريقا مستحيلا في دغل كثيف متشابك. وفوقه كان الدخان والعويل ودوي القنابل وزخات الرصاص تمتزج أصواتها بالصراخ وهدير البحر وزحف الخطوات الضائعة وضرب المجاذيف سطح الموج...
هل حقا مضى على ذلك كله عشرون سنة؟.
كان العرق يتصبب باردا على جبين سعيد وهو يقود سيارته صاعدا المنحدر. لقد حسب أنتلك الذاكرة لن تعود بهذا الصخب المجنون الذي لم يكن لها إلا لحظات حدوثها. ومن طرفي عينيه نظر الى زوجته : كان وجهها مشدودا أميل الى الاصفرار وكانت عيناها تتدفقان بالدموع، لا ريب أنها – قال لنفسه – تستعيد خطواتها ذلك اليوم ذاته، حين كان هو أقرب ما يكون الى البحر، وكانت هي أقرب ما تكون الى الجبل، وبينهما يمد الرعب والضياع خيوطهما غير المرئية، فوق مستنقع من الصراخ والخوف والمجهول.
كانت-كما قالت له أكثر من مرة في السنوات الماضية – تفكر به. وحين دوى الرصاص وانطلق الناس يقولون أن الانكليز واليهود أخذوا يكتسحون حيفا، راودها خوف يائس.
كانت تفكر به، عندما جاءت أصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف أنه هناك. وكانت تشعر أنها أكثر أمنا، فالتزمت البيت فترة، وحين طال غيابه، هرعت الى الطريق دون أن تدري على وجه التحديد ما الذي كانت تريده. في البدء كانت تطل من الشباك، ومن الشرفة. وكأنها شعرت الآن أن الأمر قد تغير تماما، إذ بدأت النار تنهمر بغزارة، بدءا من الظهر، من التلال الواقعة فوق الحليصا. وأحست أنها محاصرة كليا، وعندها فقط اخذت تعدو نازلة الدرج، واندفعت على طول الطريق نحو الشارع الرئيسي، وكان استعجالها لرؤيته قادما يختصر خوفها عليه وقلقها من المصير المجهول الذي كان يحمل ألف احتمال مع كل رصاصة تطلق. وحين وصلت الى أول الطريق أخذت تراقب السيارات المندفعه بسرعة، وقادتها خطواتها من سياره الى أخرى، ومن رجل الى آخر، تسأل دون أن تحصل على جواب. وفجأه رأت نفسها في موج الناس، يدفعونها، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة، في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده، كانها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش.
كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن خلدون الطفل ما زال في سريره في الحليصا؟
ليست تتذكر تماما، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض، فيما أخذالسيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء، وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها. وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة. ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل الى أي أذن. لقد رددت كلمة"خلدون" ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل في فمها صوتا مبحوحا مجروحا لا يكاد يسمع. وظلت كلمة"خلدون"نقطة واحدة لا غير، تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء.
وكانت على وشك السقوط وسط الأقدام حين سمعت كمن يحلم صوتا ينبثق من الأرض، ويناديها باسمها، وحين رأت وجهه وراءها يتفصد بالعرق والغضب والارهاق أحست ذهول الفاجعه أكثر من أي وقت مضى، واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها، وقررت أن تعود بأي ثمن. ولربما أحست بأنها لن تستطيع الى الأبد النظر الى عيني سعيد، او تركه يلمسها. وفي أعماقها شعرت أنها على وشك أن تفقد الاثنين معا : سعيد وخلدون… فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد في وجهها طريق العودة، محاولة في الوقت نفسه أن تضيع سعيد، الذي أخذ –دون أن يعي- ينادي صفية تارة، وينادي خلدون تارة أخرى
هلى مضت أجيال وأزمنة قبل أن تحس بكفيه القويتين المتيبستين تشدان على ذراعيها؟
وفجأة نظرت في عينيه، وأحست بشيء يشبه الشلل يسقطها على كتفه لخرقة بالية لا قيمة لها، وحولهما مضت سيول البشر تتقاذفهما من جهة الى أخرى، وتدفعهما أمامها نحو الشاطئ، ولكنهما لم يكونا، بعد، قادرين على الإحساس بأي شيء، وفقط حين عومهما الرذاذ المتطاير من تحت خشب المجاديف، ونظر الى الشاطئ حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع

(2)

طوال الطريق، من رام الله الى القدس الى حيفا ظل يتحدث عن كل شيء، لم يكف قط عن الحديث، ولكنه حين وصل الى أول"بيت غاليم" ربط الصمت لسانه. وها هو الآن في"الحليصة"، يسمع أصوات عجلات سيارته تسير مثلما كانت دائما. وكان النبض الصعب لقلبه المتوثب يضيعه بين الفينة والأخرى لقد تضاءلت عشرون سنة من الغياب، وها هي الأمور تعود فجأة عودة لا تصدق، وراء ظهر العقل والمنطق… تراه عما يبحث؟
قبل أسبوع قالت له صفية، وهما في منزلهما في رام الله :
-" إنهم يذهبون الى كل مكان، ألا نذهب الى حيفا ؟".
وكان، عندها، يتناول عشاءه، ورأى يده تقف تلقائيا بين الصحن وبين فمه. ونظر نحوها بعد برهة فرآها تستدير، كي لا يقرأ شيئا في عينيها، ثم قال لها :
-" نذهب الى حيفا… لماذا؟".
وجاءه صوتها خافتا :
-" نرى بيتنا هناك. فقط نراه".
وأعاد لقمته الى الصحن وقام فوقف أمامها. كان رأسها يتكىء على صدرها كمن يريد أن يعترف بذنب غير متوقع. فوضع أصابعه تحت ذقنها فإذا بعينيها تنضحان بدموع غزيرة، فسألها بحنو:
-" صفية… بماذا تفكرين ؟".
وهزت رأسها موافقة دون أن تقول شيئا، فقد عرفت أنه يعرف، وربما كان هو الآخر يفكر طوال الوقت بذلك وينتظرها أن تبادئ كي لا تشعر بأنها –كما كانت تشعر دائما- هي التي ارتكبت تلك الفجيعه التي شجرت في قلبيهما معا، فهمس بصوت مبحوح :
-" خلدون؟".
واكتشف على التو أن ذلك الاسم، لم يلفظ قط في تلك الغرفة منذ زمن طويل. وأنهما في المرات القليلة التي تحدثا عنه كانا يقولان"هو بل أنهما تجنبا تسمية أي من أولادهما الثلاثة ذلك الاسم، وأن كانا قد أطلقا على أكبرهما أسم"خالد" وعلى البنت التي أنجباها بعد ذلك بعام ونصف"خالدة بل أن أولادهما لم يعرفا قط أن لهما أخا اسمه خلدون، وهو نفسه ينادونه أبا خالد"، وأصدقاءه القدامى اتفقوا على القول بأن خلدون قد مات. فكيف يمكن للأمور أن تندفع من الباب الخلفي على هذه الصورة الفريده ؟
وظل سعيد واقفا هناك وكأنه نائم في مكان بعيد، إلا أنه التقط نفسه بعد هنيهة، وأخذ يخطو عائدا الى طاولته، وقبل أن يجلس قال لها :
-"
أوهام يا صفية أوهام ! لا تتركي لنفسك أن تخدعك على هذه الصورة المحزنة. أنت تعرفين كم سألنا وكم حققنا، وتعرفين قصص الصليب الأحمر، ورجال الهدنة، والأصدقاء الأجانب الذين بعثناهم الى هناك. لا، لا أريد الذهاب الى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا؟".
وأخذ صوت نشيجها يعلو شيئا فشيئا، ولكنها التزمت الصمت، وأمضيا تلك الليلة دونما كلمة، يستمعان معا الى أصوات الأحذية العسكرية تقرع الطرق، والى الراديو يظل يعطي الأوامر.

وحين مضى الى فراشه كان يعرف –في أعماقه – أن لا فرار، وأن الفكرة التي كانت هناك طوال عشرين سنة قد ولدت، ولا سبيل الى دفنها من جديد. ورغم أنه كان يعرف أن زوجته لم تنم، وأنها أمضت كل ذلك الليل تفكرفي الأمر نفسه، إلا أنه لم يبادلها أية كلمة، وفي الصباح قالت له بهدوء:
-"
إذا أردت أن تذهب فخذني معك، لا تحاول يا سعيد أن تذهب وحدك
إنه يعرف صفيه جيدا، ويعرف أنها تدرك تماما كل فكرة تعبر رأسه. وهذه المره قاطعته وهو في منتصف الطريق، فقد قرر في الليل أن يذهب وحده، وها هي تكتشف قراره من تلقائها، وتمنعه.
وظل الأمر كله معلقا في سقف أيامهما ولياليهما طوال أسبوع. يأكلانه مع طعامهما ويعلكانه وينامان معه ولكنهما لم يتكلما حوله أبدا، وليله أمس فقط قال لها :
-"
لنذهب غدا الى حيفا، نتفرج عليها على الأقل، وقد نمر قرب بيتنا هناك. أنا أعرف أنهم سيصدرون قريبا قرار يمنع ذلك كله. فحساباتهم لم تكن صحيحه".
وصمت قليلا، وليس يدري إن كان راغبا حقا في تغيير الموضوع، إذ سمع نفسه يمضي في كلام آخر:
-"
في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم الى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث. كلهم يقولون كلاما متشابها ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم. جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة. إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما. في البلد هنا ردة فعل سيئه جدا، وهو عكس ما أرادوه حين فتحوا حدودهم أمامنا. لذلك فأنا أتوقع يا صفية أن يلغوا ذلك القرار قريبا جدا، وهكذا قلت لنفسي لماذا لا نقتنص الفرصة ونذهب؟".
وحين نظر إلى صفية رآها ترتجف، وشهد وجهها يميل بوضوح للاصفرار، فخرج من الغرفة، إذ أحس هو الآخر بدموع حارقه تسد حلقه. ومنذ تلك اللحظة لم يكف اسم"خلدون" عن الدق في رأسه، تماما مثلما كان قبل عشرين سنة حين سمعه يدق المرة تلو الأخرى فوق الزحام المتدفق أمام مياه الميناء الباكية. ولا شك أنه كان كذلك بالنسبة لصفية، وقد تحدثا طوال الطريق عن كل شيء، إلا عن خلدون. وقرب"بيت غاليم"فقط التزما الصمت، وها هما الآن ينظران صامتين إلى الطريق التي يعرفانها جيدا والملتصقة في رأسيهما كقطع من لحمهما وعظامهما.
ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماما خفف سرعة سيارته إلى حدها الأدنى قبل أن يصل إلى ذلك المنعطف، الذي كان يعرف أن سفحا صعبا يكمن وراءه. وانعطف بسيارته كما كان يفعل دائما وتسلق السفح محتفظا بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق. وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلا فوق الشارع قد مدت أغصانا جديده، ورغب أن يتوقف لحظه كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن، ويكاد يتذكرها واحدا واحدا، ولكنه لم يفعل. وليس يدري كيف حدث الأمر، ولكنه بصورة ما تذكر حين مر قرب باب يعرفه، شخصا من بيت الخوري كان يسكن هناك، وكانت عائلته تمتلك بناية كبيرة جنوب طريق ستانتون، قرب شارع الملوك. وفي تلك البناية

-يوم الفرار – تمترس المقاتلون العرب وقاتلوا حتى آخر رصاصة وربما آخر رجل. وقد مر قرب تلك البناية حين كان يندفع نحو الميناء بقوة تفوقه مقدرة، وتذكر الآن بالضبط أنه هناك، وهناك فقط، سقطت عليه الذاكرة كما لو أنه ضرب بحجر، وهناك بالضبط تذكر خلدون وانقبض قلبه يومها، قبل عشرين سنة، وما زال، والآن يزداد نبضه قوة حتى كاد أن يسمعه
وفجأة أطل المنزل، المنزل ذاته، ذلك الذي عاش فيه، ثم عيشه في ذاكرته طويلا، وها هو الآن يطل بمقدمة شرفاته المطلية باللون الأصفر.
ولوهلة خيل إليه أن صفيه، شابه وذات شعر مجدل طويل، ستطل عليه من هناك. كان حبلا جديدا للغسيل قد دق على وتدين خارج الشرفة، وتدلت منه قطع بيضاء وحمراء لغسيل جديد. وفجأة أخذت صفيه تبكي بصوت مسموع، أما هو فقد انحرف إلى اليمين، وترك عجلات سيارته تصعد الرصيف الواطئ. ثم أوقف السيارة في المكان الذي لها، كما كان يفعل -تماما- منذ عشرين سنة !
تردد"سعيد.س" هنيهة فقط وهو يطفئ محرك سيارته، ولكنه كان يعرف في أعماقه أنه لو ترك نفسه يتردد فترة أطول لانتهى الأمر، ولعاد فحرك سيارته عائدا أدراجه. وهكذا جعل الأمر، لنفسه ولزوجته، يبدو طبيعيا للغاية. كما لو أن العشرين سنة الماضية وضعت بين مكبسين جبارين وسحقت حتى صارت ورقه شفافة لا تكاد ترى. نزل من السيارة وصفق وراءه بابها، وأخذ يرفع حزامه وهو ينظر نحو الشرفة تاركا المفاتيح تخشخش في راحته دونما اكتراث.
ودارت زوجته حول السيارة وقفت إلى جانبه، إلا أنها لم تكن بارعة مثله. أمسك بذراعها، وأخذ يقطع بها الشارع: الرصيف، البوابة الحديدية الخضراء، الدرج.
وبدآ يصعدان، دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضه وتفقده اتزانه : الجرس، ولاقطة الباب النحاسية، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط،وصندوق الكهرباء، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكف، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأول حيث كان يعيش محجوب السعدي، وحيث كان الباب يظل مواربا دائما، والأطفال يلعبون أمام الدار دائما، ويملأون الدرج صراخا، إلى الباب الخشبي المغلق، المدهون حديثا، والمغلق بإحكام.
وضع إصبعه على الدرج وهو يقول بصوت خافت لصفية :
-" غيروا الجرس".
وسكت قليلا ثم تابع :
-" والاسم طبعا".
واغتصب ابتسامة غبية، وشد يده فوق يدها وأحس بها باردة ترتجف، وراء الباب سمعا صوت خطوات تجر نفسها ببطئ، وقال لنفسه :" شخص عجوز بلا شك"، وقرقع المزلاج بصوت مكتوم، وببطء انفتح الباب.
" ها هي ذي"، ليس يدري إن قال ذلك بصوت مسموع، أو قاله لنفسه كمن يتنفس الصعداء. ولكنه ظل واقفا مكانه لا يعرف ماذا يتوجب عليه أن يقول. ولام نفسه لكونه لم يحضر جملة يبدأ بها رغم أنه فكر طويلا في أن لحظة كهذه لا بد آتيه، وتكرك في مكانه ناظرا إلى صفية كمن يستنجد. فتقدمت أم خالد خطوة إلى الأمام وقالت :
-" هل نستطيع أن ندخل؟".
ولم تفهم المرأة العجوز، السمينة بعض الشيء،والقصيرة، والتي كانت تلبس ثوبا أزرق منقطا بكريات بيضاء. فأخذ سعيد يترجم إلى الإنكليزية، وعندها انفرجت أسارير العجوز المتسائلة، وسعت من الطريق حتى دخلا، ثم أخذت تسير أمامهما نحو غرفة الجلوس.
وتبعها سعيد وبجانبه صفية، وبخطوات مترددة بطيئة، وأخذا يميزان الأشياء بشيء من الدهشة. لقد بدا له المدخل أصغر قليلا مما تصوره وأكثر رطوبة واستطاع ان يرى أشياء كثيرة اعتبرها ذات يوم، وما يزال، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائما ملكية غامضة مقدسة لم يستطع أي كان أن يتعرف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقا. ثمة صورة للقدس يتذكرها جيدا وما تزال معلقة حيث كانت، حين كان يعيش هنا. وعلى الجدار المقابل سجادة شامية صغيرة كانت دائما هناك أيضا.
وأخذ يخطو ناظرا حواليه، مكتشفا الأمور شيئا فشيئا، أو دفعة واحدة، كمن يصحو من إغماء طويل. وحين صارا في غرفة الجلوس، استطاع أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له. أما المقاعد الثلاثة الأخرى فقد كانت جديدة، وبدت هناك فظة وغير متسقة مع الأثاث. وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها، وإن كان لونها قد صار باهتا، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب، وفيها تكومت أعواد من ريش الطاوس، كان يعرف أنها سبعة أعواد. وحاول أن يعدها وهو جالس مكانه إلا أنه لم يستطع، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة، كانت خمسة فقط.
وحين استدار عائدا إلى مكانه، رأى أن الستائر قد تغيرت،وأن تلك التي اشتغلتها صفية، قبل عشرين سنة، بالصنارة، من الخيوط السكرية اللون، قد اختفت من هناك، واستبدلت بستائر ذات خطوط زرقاء متطاولة.
ثم وقع بصره على صفية، فرآها محتارة، تنقب بعينيها في زوايا الغرفة وكأنها تعد الأشياء التي تفتقدها، وكانت المرأة السمينة العجوز تجلس أمامهما على ذراع أحد المقاعد، تنظر إليهما وهي تبتسم ابتسامة لا معنى لها، وأخيرا قالت دون أن تجعل تلك الابتسامة تفر:
"منذ زمن طويل وأنا أتوقعكما".
كانت لغتها الإنجليزية بطيئة، وذات لكنه أقرب إلى الألمانية، وتبدو، إذ تتلفظ بها، كما لو أنها تنتشل كلماتها من بئر غبار سحيقة الغور.
وانحنى سعيد إلى الأمام وسألها :
"هل تعرفين من نحن ؟".
وهزت رأسها بالإيجاب عدة مرات لتزيد الأمر الأمر تأكيدا، وفكرت قليلا كي تنتقي كلماتها، ثم قالت ببطء :
-" أنتما أصحاب هذا البيت، وأنا أعرف ذلك".
-" كيف تعرفين ؟".
جاء السؤال من سعيد وصفية في وقت واحد.
وزادت العجوز في ابتسامتها. ثم قالت :
-" من كل شيء. من الصور، من الطريقة التي وقفتما بها أمام الباب. والصحيح أنه منذ انتهت الحرب جاء الكثيرون إلى هنا وأخذوا ينظرون إلى البيوت ويدخلونها، وكنت أقول كل يوم أنكما ستأتيان لا شك."
وفجاءة بدت محتارة، وأخذت تنظر حواليها، إلى الأشياء الموزعة في الغرفة وكأنها تراها لأول مرة، ودون أن يقصد أخذ سعيد ينظر إلى حيث تنظر، وينقل بصرة حيث تنقل بصرها، وفعلت"صفية"الشيء ذاته، وقال سعيد لنفسه :
" يا للغرابة ! ثلاثة أزواج من العيون تنظر إلى شيء واحد … ثم كم تراه مختلفا !".
وسمع صوت العجوز، وقد صار الآن خافتا وأشد بطئا:
-" أنا آسفة، ولكن ذلك كان ما. لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن".
وابتسم سعيد بمرارة، ولم يعرف كيف يقول لها أنه لم يأت من أجل هذا، وأنه لن يشرع في نقاش سياسي، وأنه يعرف ان لا ذنب لها.
" لا ذنب لها ؟"
لا، ليس بالضبط ! كيف يشرح لها ذلك ؟

إلا أن صفية وفرت عليه همه، إذ سألت بصوت بدا بريئا بصورة مريبة، فيما أخذ هو يترجم :
-" من أين جئت؟".
-" من بولونيا".
-" متى ؟".
-" في سنة 1948".
-" متى بالضبط؟".
-" أول آذار، 1948".
وخيم صمت ثقيل، وأخذوا جميعا ينظرون إلى حيث لم يكن من المهم لهم أن ينظروا، وقطع سعيد الصمت قائلا بهدوء:
-" طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب…."
وشدت"صفية"على يده، كي لا يمضي في الحديث فانتبه، وعاد يحاول الكلام مقتربا من الموضوع:
-" أقصد أن وجودك هنا، في هذا البيت، بيتنا نحن، بيتنا أنا وصفية، هو موضوع آخر، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء، هذه الأشياء لنا، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك".
فقالت بسرعة :
-" أفهم، ولكن …."
وفجأة فقد أعصابه :
-" نعم، ولكن !.. هذه ال"لكن"الرهيبة، المميتة، الدامية …."
وسكت تحت وطأة نظرات زوجته، وشعر بأنه لن ينجح أبدا في الوصول إلى مقصده. ثمة ارتطام قدري لا يصدق، وغير قابل للتجاهل، وهذا الذي يجري هو مجرد حوار مستحيل.
وللحظة رغب في أن يقوم ويمضي، فلم يعد يهمه أيما شيء. ليكن خلدون ميتا، أو حيا، لا فرق، فحين تصل الأمور إلى هنا فليس ثمة ما يمكن أن يقال. وانتابه غضب مهيض ومر، وأحس أنه على وشك ان يتفجر من الداخل.
وليس يدري كيف سقط نظره على تلك الريشات الخمس من ذيل الطاوس التي كانت مزروعة في الإناء الخشبي وسط الغرفة، ورآها تتحرك بألوانها الفذة الرائعة، التي لا تصدق مع هبوب نسمة من الهواء دخلت من النافذة المفتوحة. وفجأة سئل بفظاظة وهو يشير إلى المزهرية :
-" كان هنا سبع ريشات، ماذا حدث للريشتين المفقودتين؟".
ونظرت العجوز إلى حيث أشار، وعادت فنظرت إليه متسائلة، وكان ما يزال يمد ذراعه باتجاه المزهرية ويحدق فيها مطالبا بالجواب، وكان الكون كله يقف على رأس لسانها. نهضت من مكانها واقتربت نحو المزهرية وأمسكتها كما لو أنها تفعل ذلك لأول مرة، ثم قالت ببطء:
-" لست أدري أين ذهبت الريشتان اللتان تتحدث عنهما، ذلك شيء لا أستطيع أن أتذكره، ربما كان (دوف) قد لعب بهما وضيعهما بعد ذلك حين كان صغيرا".
-" دوف؟؟".
قالاها معا، سعيد وصفية، وقفا وكأن الأرض قذفتهما إلى فوق، وأخذا متوترين، ينظران نحوها، فمضت تقول:
-" أجل دوف، ولست أدري ماذا كان اسمه، وإن كان يهمك الأمر، فهو يشبهك كثيرا…."

( 3 )

الآن، بعد ساعتين من حديث متقطع، يمكن إعادة ترتيب الأمور من جديد : إذا ماذا حدث في تلك الأيام القليلة التي امتدت بين ليل الأربعاء، 21 نيسان 1948 حين غادر (سعيد س) حيفا على متن زورق بريطاني دفع إليه دفعا مع زوجته، وقذفه بعد ساعة على شاطئ عكا الفضي، وبين يوم الخميس 29 نيسان 1948، حين فتح رجل من الهاغاناه، معه رجل عجوز له وجه يشبه الدجاجة، باب منزل (سعيد س) في الحليصة، وسع الطريق أمام ( إفرات كوشن ) وزوجته، القادمين من بولونيا، ليدخلا إلى ما صار منذ ذلك اليوم منزلهما المستأجر من دائرة أملاك الغائبين في حيفا.
لقد وصل ( افرات كوشن ) إلى حيفا، برعاية الوكالة اليهودية، قادما إليها مع زوجته من ميناء ( ميلانو ) الإيطالي في وقت مبكر من شهر آذار. كان قد غادر وارسو مع قافلة صغيرة في أوائل تشرين الثاني من عام 1947، وأسكن في منزل مؤقت يقع في ضواحي ذلك المرفأ الإيطالي الذي كان آنذاك يضج بحركة غير عادية، وفي أوائل آذار نقل بحرا مع عدد من الرجال والنساء إلى حيفا.
كانت أوراقه معدة تماما، وحملته شاحنة صغيرة مع أشيائه القليلة عبر الميناء الصاخب، المليء بالجنود البريطانيين والعمال العرب والبضائع، عبر شوارع حيفا المتوترة، والتي كانت تدوي فيها طلقات نارية متقطعة بين الفينة والأخرى، إلى الهادار، حيث أسكن في غرفة صغيرة من بناء مزدحم بالسكان.
وتبين ل ( أفرات كوشن ) بعد فترة، أن جميع الغرف في البناء يشغلها مهاجرون جدد، ينتظرون هناك نقلهم إلى أمكنة أخرى فيما بعد، وليس يدري إن كانوا قد أطلقوا عليه اسم ( نزل المهاجرين) وهم يلتقون كل ليلة لتناول العشاء، أم أن ذلك الاسم كان معروفا قبلهم، وأنهم استعملوه فقط.
وربما كان قد نظر عدة مرات، من شرفته إلى ( الحليصة )، إلا أنه لم يكن يعرف على الإطلاق، أو حتى يخمن، أنه سيجري إسكان هناك. وفي الواقع فإنه كان يعتقد أنه حينما تسوى الأمور فسينقل إلى بيت ريفي هادئ على سفح تله ما في الجليل : كان قد قرأ قصة ( لصوص في الليل ) لآرثر كوستلر حين كان في ميلان، أعاره إياها رجل قادم من بريطانيا ليشرف على عملية التهجير، وعاش فترة من الزمن في تلك التلال الجليلة التي جعلها ( كوستلر ) مسرحا لروايته. وفي الحقيقة فإنه لم يكن ليعرف الكثير آنذاك عن فلسطين. وبالنسبة له كانت مجرد مسرح ملائم لأسطورة قديمة، ما يزال يحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه مرسوما في الكتب الدينية المسيحية الملونة المخصصة لقراءة الأطفال في أوروبا. إلا أنه بالطبع لم يكن يصدق تماما أن تلك الأرض كانت مجرد صحراء أعادت الوكالة اليهودية اكتشافها بعد ألفي سنة. ومع ذلك فلم يكن هذا هو أكثر ما كان يهمه آنذاك، وقد وضع في ذلك النزل،وكان هناك شيء اسمه الإنتظار، وقد اعتنقه هما يوميا مثلما فعل بقية أولئك الذين كانوا معه.
وربما لأنه سمع أصوات الرصاص منذ أن خرج من ميناء حيفا في نهاية أول أسبوع من آذار 1948، فإنه لم يفكر كثيرا في أن شيئا مرعبا كان يحدث آنذاك، وهو – على كل حال – لم يقابل شخصا عربيا في حياته كلها، بل إنه صادف أول عربي في حيفا نفسها بعد إحتلالها بحوالي عام ونصف العام. وقد جعله ذلك الأمر يحتفظ طوال الأيام الحرجة بصورة فريدة وغامضة عما كان يجري حقا. صورة أسطورية جاءت ملائمة تماما لما كان يتصوره في وارسو وفي ميلان طوال 25 سنة من عمره، ولذلك كانت المعارك التي يسمع أصواتها ثم يقرأ أخبارها في"بالستاين بوست" كل صباح، إنما تجري بين بشر وبين أشباح، ليس إلا.
أين كان بالضبط يوم الأربعاء 21 نيسان 1948، في الوقت الذي كان"سعيد س." ضائعا بين"شارع اللنبي"و" حارة حلول"وكانت زوجته"صفية"تندفع من"الحليصة"نزولا على حافة المركز التجاري باتجاه شارع ستانتون ؟.

رائعه جزيتي خيرا غاليتي
لم يعد من الممكن الآن تذكر الأمر تماما، بتفاصيله، ومع ذلك فإنه يذكر أن الهجوم الذي بدأ صباح الأربعاء ظل مستمرا حتى ليل الخميس، وصباح الجمعة فقط، 23 نيسان 1948، تأكد تماما أن الأمر في حيفا قد انتهى، وأن الهاغانا سيطرت على الموقف كليا. وهو لم يعرف بالضبط ماذا حدث على وجه الدقة : لقد بدا القصف من الهادار، وتكومت التفاصيل لديه من الراديو ومن أخبار القادمين بين الفينة والأخرى ممتزجة بصورة تستعصي على الاستيعاب. إلا أنه كان يعلم أن الهجوم الشامل الذي بدأ صباح الأربعاء قد انطلق من ثلاثة مراكز وأن الكولونيل"موشيه كارماتيل"كان يضع يده في تلك اللحظة على ثلاث كتائب يحركها من هادار هاكرمل ومن المركز التجاري، وأن واحدة من هذه الكتائب كان عليها أن تكتسح الحليصة، فالجسر، فوادي رشميا نحو المرفأ. في حين تضغط كتيبة أخرى من المركز التجاري لحصر الهاربين في ممر ضيق ينتهي إلى البحر. ولم يكن"ايفرات" يعرف على وجه التحديد مواقع هذه الأمكنة التي حفظ أسماءها من فرط التكرار. وقد كان ثمة ارتباط ما بين كلمة"ارغون"وكلمة"وادي النسناس"، مما جعله يفهم أن العصابة تلك كانت مكلفة بالهجوم هناك.
ولم يكن"أفرات كوشن"بحاجة إلى من يؤكد له أن الإنجليز مهتمون بتسليم حيفا للهاغاناه، فقد كان بوسعه معرفة أنهم كانوا وما زالوا يقومون بدوريات مشتركة، وقد رأى ذلك بنفسه مرتين أو ثلاث مرات. ولا يذكر الآن كيف حصل على معلوماته عن دور البريجادير ستوكويل، ألا أن ذلك بالنسبة له كان مؤكدا، وكان الهمس يدور في كل زاوية من"نزل المهاجرين"أن البريجادير
ستوكويل إنما يرمى بثقله مع الهاغاناه، وأنه في الحقيقة كتم الخبر عن موعد انسحابه ولم يسر به إلا للهاغاناه. فأعطاهم بذلك عنصر المفاجأة في اللحظة المناسبة، وذلك في وقت كان يحسب فيه العرب أن تخلي الجيش البريطاني عن السلطة إنما سيتم في وقت لاحق.
وطل طوال يومي الأربعاء والخميس في ( النزل )، وكانوا كلهم قد تلقوا التعليمات بألا يغادروا المكان. ويوم الجمعة بدأ بعضهم يخرجون،إلا أنه لم يخرج من النزل حتى صباح السبت. وأدهشه للوهلة الأولى أنه لم يجد سيارة، لقد كان سبتا يهوديا حقيقيا. وابتعث ذلك شيئا من الدموع في عينيه لسبب لا يستطيع تفسيره. وحين رأته زوجته كذلك فوجئ بها تقول له – والدموع في عينيها-:
-"
إنني أبكي لشيء آخر، إنه سبت حقيقي، ولكن لم يعد ثمة جمعه حقيقية هنا، ولا أحد حقيقي."
ذلك كان مجرد البداية، فللمرة الأولى منذ جاء زوجته أمامه باختصار شيئا مقلقا لم يكن يحسب حسابه ولم يفكر فيه. وفجأة أخذت آثار الدمار، التي بدأ يلاحظها، شكلا جديدا ومعنى آخر، ولكنه رفض بينه وبين نفسه أن يجعل من ذلك مبعثا جادا للقلق، أو حتى للتفكير.
على أن الأمر لم يكن كذلك لميريام، زوجته، إذا أنها تغيرت تماما ذلك اليوم، وجاء التغير حين شهدت، وهي تدور قرب كنيسة بيت لحم في الهادار. شابان من الهاغانه يحملان شيئا ويضعانه قي شاحنه صغيره كانت واقفه هناك، واستطاعت في لحظة كانخطاف البصر أن ترى ما يحملانه، فأمسكت بذراع زوجها وصاحت وهي ترتجف:
-"
أنظر!"
إلا أن زوجها حين نظر حيث كانت تشير، لم يرى شيئا، كان الشابان يمسحان كفيهما على طرفي قميصيهما الخاكيين، وقالت زوجته :
"
كان طفلا عربيا ميتا، وقد رأيته مكسوا بالدم".
وأخذها زوجها إلى الرصيف الآخر وسألها :
-"
كيف عرفت أنه طفل عربي؟"
-"
ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة كأنه حطبه ؟ لو كان يهوديا لما فعلوا ذلك".
وأراد أن يسألها لماذا، إلا أنه لحظ وجهها وصمت.
كانت"ميريام" قد فقدت والدها في"أوشفيتز" قبل ذلك بثماني سنوات. وقبل ذلك، حين دهموا المنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها، ولم يكن عند ذاك فيه، التجأت إلى جيران كانوا يسكنون فوق منزلها. ولم يجد الجنود الألمان أحدا، الا انهم في طريق نزولهم على السلم صادفوا أخاها الصغير قادما إليها، كان عمره عشر سنوات، وقد جاء آنذاك ليخبرها -أغلب الظن – أن والها قد سيق إلى المعتقل وأنه الآن صار وحده. إلا أنه حين رأى الجنود الألمان استدار وأخذ يعدو هاربا. وقد استطاعت أن ترى ذلك عبر تلك الكوة الضيقة التي تتيحها المسافه الصغيرة المتروكة بين مجموعة السلالم ومن هناك شهدت كيف أطلق عليه الرصاص.
وحين عاد"إيفرات كوشن" مع ميريام إلى نزل المهاجرين كانت"ميريام" قد قررت العودة إلى إيطاليا. ولكنها لم تفلح طوال تلك الليلة، ولا في الأيام القليلة التي أعقبت ذلك اليوم، في إقناع زوجها بذلك، وكانت دائما تخسر النقاش بسرعة، ولا تستطيع إيجاد الكلمات التي تعبر عن رأيها، وتشرح حقيقة دوافعها.
ألا أن الأمور عادت فتغيرت بعد ذلك بأسبوع واحد، فقد عاد زوجها من زيارة لمكتب الوكالة اليهودية في حيفا بخبرين مفرحين: لقد أعطي بيتا في حيفا نفسها، وأعطي مع البيت طفلا عمره خمسة شهور!
مساء يوم الخميس، 22 نيسان 1948، سمعت"تورا زونشتاين"المرأة التي كانت تسكن مع ابنها الصغير بعد أن طلقها زوجها، في الطابق الثالث، بالضبط فوق بيت"سعيد.س"، صوت بكاء طفل واهن منطلق من الطابق الثاني.
ورغم أنها لم تصدق في بادئ الأمر ما ذهبت إليه أفكارها، الا أنها تحركت من مكانها بعد أن استطال البكاء الواهن، ونزلت إلى الطابق الثاني وأخذت تقرع الباب.
واخيرا اضطرت إلى تحطيم الباب، وكان الطفل في سريره منهكا تماما، فحملته إلى بيتها.
كانت تورا تحسب أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه بعد فترة وجيزة. إلا أن ذلك الحسبان ما لبث أن سقط بعد يومين اثنين، حين اكتشفت أن الأمر يختلف تماما عما كانت تحسب. ولم يكن من المعقول الاستمرار بالاحتفاظ بالصبي، فحملته إلى الوكالة اليهودية في حيفا وهي تتصور أن شيئا ما يمكن أن يقام به لحل تلك المشكلة.
وهكذا فقد كان من حظ"ايفرات كوشين" أن جاء بعد ذلك بفترة وجيزة إلى مكتب الوكالة اليهودية، وحين تبين المسؤولون هناك من أوراقه انه لم ينجب أولادا، عرضوا عليه بيتا في حيفا نفسها، كامتياز خاص، إن هو قبل بتبني الطفل.

ولم يكن هذا العرض الا مفاجئة مدهشة لايفرات، الذي كان يتحرق لتبني طفل بعد أن تأكد كليا من أن ميريام غير قادرة على الإنجاب. بل أنه مضى إلى حد اعتبار الأمر كله بمثابة هبة إلهية لا تكاد تصدق تأتي بخيراتها دفعه واحدة. إذ لا شك أن طفلا يعطى لميريام سيجعلها تتغير تماما، وتكف عن ذلك الشيء الغريب الذي بات ينتاب أفكارها منذ رأت ذلك الطفل العربي القتيل

يلقى في شاحنة الموت كقطعة خشب رخيصة.
وكان ذلك اليوم يوم خميس، الثلاثين من نيسان 1948، عندما دخل أفرات كوشين وزوجته ميريام برفقة موظف من الوكالة اليهودية له وجه يشبه الدجاجة، ويحمل طفلا عمره خمسة شهور، إلى بيت سعيد س. في الحليصة.
أما سعيد س. وصفية فقد كانا في ذلك اليوم بالضبط يبكيان معا، بعد أن عاد سعيد للمرة الثالثة فاشلا، عاجزا عن الدخول إلى حيفا، لينام بعد قليل مرهقا ممزقا شبه غائب عن الوعي من فرط التعب، في الغرفة التي كانت صفا سادسا بمدرسة المعارف الثانوية، مقابل جدار السور الذي يحمي سجن عكا الشهير، على شاطئ البحر الغربي.
ولم يتناول سعيد س. قهوة ميريام، واكتفت صفية برشفة واحدة، تناولت معها قطعة من البسكوت المعلب كانت ميريام قد وضعته، دون أن تكف عن الابتسام، أمامهما.
وظل سعيد س. ينظر حواليه وقد تضاعفت حيرته بعد أن أستمع إلى قصة ميريام نتفة وراء الأخرى، طوال زمن بدا له طويلا، ولفترة ما ظلا، صفية وهو، جالسين على مقعديهما كأنما سمرا هناك، ينتظران شيئا مجهولا لا قدرة لهما على تصوره.
ومضت ميريام تذهب وتجيء. وحين كانت تغيب وراء الباب كانا يوصلان الاستماع إلى خطواتها البطيئة تجر نفسها جرا على البلاط، بل كان بوسع صفية حين تغمض عينيها قليلا أن تتصور بالضبط كيف كانت ميريام تعبر الممر المؤدي إلى المطبخ، وعن يمينها كانت غرفة النوم، ومرة واحدة فقط سمعت اصطفاق الباب، فنظرت نحو زوجها وقالت له بمرارة : -" كأنها تتصرف في بيتها ! تتصرف وكأنه بيتها !"
وابتسما بصمت، وعاد يشد راحتيه على بعضهما بين ركبتيه دون أن يستطيع التوصل إلى قرار، وأخيرا جاءت ميريام، فسألها :
-" ومتى سيحضر ؟"
-" وقت أوبته الآن، ولكنه قد يتأخر قليلا. لم يلتزم طوال عمره بموعد لعودته إلى البيت، إنه مثل أبيه تماما …. كان …"
وصمتت وهي تعض قليلا على شفتيها وتنظر نحو سعيد الذي أحس ببدنه يرتجف للحظة وكأن تيارا كهربائيا مسه."مثل أبيه !" وفجاءة سأل نفسه :" ما هي الأبوة ؟" وكان مثل من فتح مصراعي شباك إعصار غير متوقع. فأخذ رأسه بين راحتيه وحاول أن يوقف ذلك الدوران المجنون للسؤال الذي كان كامنا في مكان ما من عقله طوال عشرين سنة، دون أن يجرؤ على مواجهته، أما صفية فقد أخذت تربت على كتفه، لقد فهمت بصورة غريبة >لك الارتطام الذي لا يصدق، والذي يمكن للكلمات أحيانا أن تفعله على حين فجأة، ثم قالت:
-" أنظر من الذي يتحدث ! إنها تقول (مثل أبيه)! وكأن لخلدون أبا غيرك !".
ألا أن ميريام تقدمت الى الأمام، وقفت معدة نفسها لتقول شيئا صعبا. ثم ببطء أخذت تنتزع تلك الكلمات التي تبدو وكأن يدا ما تنتشلها من أعماق بئر محشو بالغبار :
-" إسمع يا سيد سعيد. أريد أن أقول لك شيئا مهما ولذلك أردتك أن تنتظر دوف، أو خلدون إن شئت، كي تتحدثا. وكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي، أتعتقد أن الأمر لم يكن مشكلة لي كما كان مشكلة لك ؟ طوال السنوات العشرينالماضية وأنا محتارة، والآن دعنا ننتهي من كل شيء. أنا أعرف أبوه، وأعرف أيضا أنه ابننا، ومع ذلك لندعه يقرر بنفسه، لندعه يختار. لقد أصبح شابا راشدا، وعلينا نحن الإثنين أن نعترف بأنه هو وحده صاحب الحق في أن يختار… أتوافق؟".
وقام سعيد عن مقعده واخذ يدور في انحاء الغرفة ثم وقف امام الطاولة المنقوشة بالصدف وسط الغرفة واخذ، مرة أخرى، يعد ريشات الطاوس في المزهرية الخشبية الجاثمة هناك، الا انه لم يقل شيئا. وظل صامتا كأنه لم يسمع حرفا. وكانت ميريام تنظر اليه متحفزة، واخيرا التفت الى صفية وشرح لها ما قالته ميريام، فقامت من مكانها وقفت الى جانبه، ثم قالت بصوت مرتجف:
"ذلك خيار عادل… وانا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين. لا يمكن ان يتنكر لنداء الدم واللحم".
وفجأة أخذ سعيد يضحك بكل قوته، وكانت ضحكته تعبق بمرارة عميقة تشبه الخيبة :
-" أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون. يوما يوما، ساعة ساعة، مع الاكل والشرب والفراش.. ثم تقولين : خيار عادل ! ان خلدون، أو دوف، أو الشيطان ان شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي ؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي. انتهى الامر. سرقوه".
ونظر نحو صفية التي تهاوت في مقعدها وقد تلقت للمرة الاولى حقيقة الامر دفعة واحدة، وبدأ لها كلام زوجها صحيحا تماما، الا انها ظلت تحاول التعلق بخيوط غير مرئية لامال بنتها في وهمها عشرين سنة كنوع من الرشوة. وعاد زوجها يقول لها :
"ربما كان لا يعرف على الاطلاق انه ولد من أبوين عربيين.. ربما عرف ذلك قبل شهر، او اسبوع، او سنة.. فماذا تعتقدين؟ انه مخدوع، وقد يكون اكثر حماسا لها منهم.. لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة، ولا بد من دفع الثمن.. بدأت يوم تركناه هنا".
"ولكننا لم نتركه. انت تعرف".
"بلى. كان علينا الا نترك شيئا. خلدون، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا. هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا!. الا ينتابك هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين!".
وأخذت صفية تنشج ببؤس، فيما مضت ميريام الى الخارج تاركة الغرفة التي ملأها فجأة توتر محسوس. وشعر سعيد بأن جميع الجدران التي عيش نفسه طوال عشرين سنة داخلها تكسرت وصار بوسعه ان يرى الاشياء اكثر وضوحا وانتظر لحظات حتى خف نشيج صفية، فاستدار نحوها وسألها
-" اتعرفين ما حدث لفارس اللبدة ؟".
-" ابن اللبدة اياه؟ جارنا؟".
-" اجل، جارنا في رام الله الذي سافر الى الكويت. اتعرفين ماذل حدث له حين زار قبل اسبوع واحد منزله في يافا؟".
"هل ذهب الى يافا؟".
"اجل. قبل اسبوع كما اعتقد، وقد استأجر سيارة من القدس اخذنه الى يافا. توجه فورا الى العجمي، كان يسكن قبل عشرين سنة في بيت من طابقين وراء المدرسة الارثودكسية في العجمي. تذكرين المدرسة؟ انها وراء مدرسة الفرير، وانت ذاهبة الى الجبلية، الى اليسار وبعدها بمئتي متر مدرسة الارثوذكس على اليمين، ولها ملعب كبير، وبعد الملعب يوجد مفرق، وفي منتصف الزقاق كان فارس اللبدة يسكن مع عائلته. كان يغلي غضبا يومها، فأمر السائق بالوقوف امام المنزل وصعد السلم درجتين درجتين ودق على باب منزله"..

( 4 )

كان الوقت عصرا، وكانت يافا – فيما عدا المنشية – ما زالت على حالها، كما كان فارس اللبدة يعرفها قبل عشرين سنة. وشعر ان اللحظات القليلة التي مضت بين قرع الباب وبين سماعه لخطوات رجل قادم ليفتحه قد امتدت دهورا من الغضب والحزن العاجز الكسيح. واخيرا انفتح الباب، ومد الرجل الطويل القامة، الاسمر والذي كان يلبس قميصا ابيض مفتوح الازرار، مد يده ليصافح القادم الذي لا يعرفه. الا ان فارس تجاهل الراحة الممدودة، وقال بالهدوء الذي يحمل كل معنى الغضب :
"جئت القي نظرة على بيتي. هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، وجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح. تستطيع ان شئت، ان تطلق علي الرصاص هذه اللحظة، ولكنه بيتي، وقد انتظرت عشرين سنة لاعود اليه.. واذا…".
واخذ الرجل الواقف على عتبة الباب، والذي كان ما يزال يمد راحته، يضحك بقوة مقتربا من فارس اللبدة حتى صار امامه مباشرة، وعندها تقدم بذراعين مفتوحتين نحوه واحتضنه..
"لا حاجة لتصب غضبك علي، فأنا عربي ايضا وبافاوي مثلك، واعرفك. فأنت ابن اللبدة.. ادخل لنشرب القهوة!".
ودخل فارس مشدوها، يكاد لا يصدق. وقد كان البيت هو نفسه، بأثاثه وترتيبه والوان جدرانه واشيائه التي يذكرها جيدا. واقتاده الرجل نحو غرفة الجلوس دون ان يقدر على اخفاء ابتسامته العريضة وحين فتح بابها وطلب منه الدخول، وقف فارس مسمرا ثم أخذت الدموع –فجأة- تظفر من عينيه!
كانت غرفة الجلوس على حالها، كأنه تركها ذلك الصباح، تعبق فيها. نفس الرائحة التي كانت لها، رائحة البحر التي كانت دائما تثير في راسه دوامات من عوالم مجهولة معدة للاقتحام والتحدي، ولكن ذلك لم يكن الشيء الذي سمره في مكانه، فعلى الجدار المقابل، المطلي بلون ابيض متوهج، كانت صورة اخيه بدر ما تزال معلقة، وحدها في الغرفة كلها، وكان الشريط الاسود العريض الذي يمتد في زاويتها اليمنى ما زال كما كان.
وفجأة تدفق في الغرفة جو الحداد الذي كان، واخذت الدموع تكر على وجنتي فارس وهو واقف هناك. تلك ايام قديمة، الا انها تدفقت الان كأن البوابات التي كانت تحبسها قد انفتحت على مصاريعها:
كان اخوه بدر اول من حمل السلاح في منطقة العجمي في الاسبوع الاول من كانون الاول عام 1947، ومنذ ذاك تحول المنزل الى ملتقى للشبان الذين كانوا يملؤون ملعب الارثوذكسية انذاك بعد ظهر كل يوم. اما الان فقد تغير كل شيء، وانخرط بدر في القتال، كأنه كان ينتظر ذلك اليوم منذ طفولته، وفي السادس من نيسان عام 1948 جيء ببدر الى الدار محمولا على اكتاف رفاقه، كان مسدسه ما زال في وسطه، اما بندقيته فقد تمزقت مع جسده بقذيفة تلقاها وهو على طريق تل الريش. وشيعت العجمي جثمان بدر كما يتوجب على الرفاق ان يشيعوا الشهيد. ثم جيء بصورته مكبرة، وذهب رفيق من رفاقه الى شارع اسكندر عوض حيث كتب خطاط هناك كان اسمه ((قطب)) يافطة صغيرة تقول ان بدر اللبدة استشهد في سبيل تحرير الوطن. وحمل طفل ما تلك اليافطة في مقدمة الجنازة وحمل طفلان صورته، وفي المساء اعيدت الصورة الي البيت، وربط شريط الحداد الاسود على زاويتها اليمنى.
انه ما زال يذكر كيف رفعت امه كل الصور التي كانت معلقة على جدران غرفة الجلوس، وعلقت صورة بدر على الجدار الذي يقابل الباب. ومنذ تلك اللحظة فاحت في الغرفة رائحة الحداد الحزين، وظل الناس يأتون فيجلسون في الغرفة وينظرون الى الصورة ويقدمون التعازي.
كان فارس، من المكان الذي يقف فيه، يستطيع ان يرى المسامير التي كانت تحمل صورا اخرى قبل عشرين سنة تطل برؤوسها من الجدران العارية. وبدت له كأنها رجال يقفون بالانتظار، امام تلك الصورة الكبيرة لاخيه الشهيد، بدر اللبدة، معلقة وحدها، متشحة بالسواد، في صدر الغرفة.
وقال الرجل لفارس:
"ادخل. اجلس في الداخل. دعنا نتحدث قليلا. لقد انتظرناكم طويلا، وكنا نريد ان نراكم في مناسبة غير هذه".
ودخل فارس، كأنه يمشي عبر حلم لا يصدق، وجلس في مقعد يواجه صورة شقيقه. تلك هي المرة الاولى التي يرى فيها صورة اخيه بدر منذ عشرين سنة، فحين خرجـوا من يافا ( حملتهم الزوارق من منطقة تقع الى الشمال من شط الشباب، واتجهت نحو غزة، الا ان اباه عاد فهاجر الى الاردن) لم يحملوا شيئا معهم، ولا حتى صورة صغيرة لبدر الذي ظل هناك.
ولم يستطيع فارس ان ينطق الا بعد ان دخل طفلان الى الغرفة، واخذا يركضان بين المقاعد، ثم خرجا صاخبين كما دخلا، وقال الرجل:
"انهما سعد وبدر. ابناي".
_"بدر"؟
"اجل سميناه على اسم اخيك الشهيد"..
"والصورة؟".
وقف الرجل وقد تغير وجهه، ثم قال:
"أنا من يافا. من سكان المنشية. وفي حرب 1948 هدمت قنابل المورتر بيتي. لست اريد ان اروي لك الان كيف سقطت يافا. وكيف انسحبوا، اولئك الذين جاؤوا لينجدونا، لحظة المأزق. ذلك شيء راح الان.. المهم انني حين عدت مع المقاتلين الى المدينة المهجورة اعتقلونا. وامضيت فترة طويلة في المعتقل. ثم حين اطلقوني رفضت ان اغادر يافا، وقد عثرت على هذا البيت، واستأجرته من الحكومة."
"والصورة؟".
"حين جئت الى البيت كانت الصورة اول شيء شاهدته وربما كنت استأجرت البيت بسببها. ذلك شيء معقد ولا استطيع ان اشرحه لك، ولكن حين احتلوا يافا كانت مدينة شبه فارغة، وبعد ان خرجت من السجن شعرت بأني محاصر. لم اشهد عربيا واحدا هنا. كنت وحدي جزيرة صغيرة معزولة في بحر مصطخب من العداء. ذلك العذاب لم تجربه انت،ولكن انا عشته.
وحين شهدت الصورة وجدت فيها سلوى. وجدت فيها رفيقا يخاطبني ويتحادث الي يذكرني بأمور اعتز بها واعتبرها اروع ما في حياتنا. قررت عندها استئجار البيت، ففي ذلك الوقت – تماما كما هو الامر الان- يبدو لي ان يكون الانسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطن شيئا ثمينا لا يمكن الاستغناء عنه. ربما كان نوعا من الوفاء لاولئك الذين قاتلوا. كنت اشعر انني لو تركته لكنت ارتكبت خيانة لا اغتفرها لنفسي. لقد ساعدني ذلك ليس على الرفض فقط، ولكن البقاء.. هكذا ظلت الصورة هنا. ظلت جزءا من حياتنا، انا وزوجتي لمياء وابني بدر وابني سعد وهو… اخوك بدر، عائلة واحدة، عشنا عشرين سنة معا. كان شيئا مهما بالنسبة لنا…".
وظل فارس حتى منتصف الليل جالسا هناك، ينظر الى شقيقه بدر يبتسم في الصورة، مليئا بالشباب والعنفوان، تحت ذلك الوشاح الاسود، كما كان يفعل طوال عشرين سنة، وحين قام ليعود سأل ان كان يستطيع استرداد الصورة، وقال الرجل:
"طبعا تستطيع. انه شقيقك بعد كل شيء وقبل اي شيء اخر".
وقام فأنزل الصورة عن الجدار، وبدا المكان الذي خلفته الصورة وراءها مستطيلا باهتا من البياض الذي لا معنى له، والذي يشبه فراغا مقلقا.
وحمل فارس الصورة معه الى السيارة، وعاد الى رام الله وكان طوال الطريق ينظر اليها متكئة الى جانبه على المقعد، ويطل منها بدر وهو يبتسم تلك الابتسامة الشابة المشرقة، وقد ظل يفعل ذلك حتى اجتاز القدس، وصار على الطريق المتجه نحو رام الله، وعندها فقط انتابه شعور مفاجيء بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة، ولم يستطيع ان يفسر الامر لنفسه، الا انه طلب من السائق العودة الى يافا، وصلها في الصباح.
صعد السلم مرة اخرى بخطى بطيئة وقرع الباب وقال له الرجل وهو يتناول الصورة منه :
"شعرت بفراغ مروع حين نظرت الى ذلك المستطيل الذي خلفته على الحائط. وقد بكت زوجتي، واصيب طفلاي بذهول ادهشني. لقد ندمت لانني سمحت لك باسترداد الصورة، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن. عشنا معه وعاش معنا وصار جزءا منا. وفي الليل قلت لزوجتي انه كان يتعين عليكم، ان اردتم استرداده، ان تستردوا البيت، ويافا، ونحن… الصورة لا تحل مشكلتكم، ولكنها بالنسبة لنا جسركم الينا وجسرنا اليكم".
وعاد فارس وحده الى رام الله، وقال سعيد س. لزوجته:
"فارس اللبدة، لو تعرفين..".

وهمس بصوت لا يكاد يسمع :
"انه يحمل السلاح الان".

( 5 )

وعلى الطريق هدر صوت محرك، ودخلت ميريام الى الغرفة وجهها يعلوه اصفرار مفاجيء، كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل، وتقدمت العجوز القصيرة بخطى بطيئة نحو النافذة، فأزاحت الستائر برفق، ثم اعلنت بصوت مرتجف :
-" ها هو دوف. لقد جاء!".
جاءت الخطوات على الدرج شابة، ولكنها متعبة، وتتبعها (سعيد س.) واحدة بعد الاخرى وهي تصعد السلم منذ ان استمع، واعصابه مشدودة، الى صوت البوابة الحديدية تصطفق ثم تنغلق بالمزلاج.
وامتدت اللحظات طويلة يكاد صمتها يضج بطنين جنوني لا يحتمل. ثم سمع صوت المفتاح يعالج الباب، وعندها فقط نظر نحو ميريام ورأى – للمرة الاولى – انها جالسة هناك، مصفرة الوجه وترتجف. ولم يكن لديه مقدار من الشجاعة يكفى للنظر الى صفية، فثبت عينيه ناحية الباب مستشعرا العرق يتفصد بقوة من جميع خلايا جسده دفعة واحدة.
وكانت اصوات الخطوات في الممر مكتومة ومحتارة بعض الشيء، ثم جاء صوت متردد، نصف عال، ينادي :"ماما".
وارتجفت ميريام قليلا، وأخذت تفرك راحتيها، فيما استمع سعيد س. الى زوجته، تشرق بدمعها بصوت لا يكاد يسمع. وفي الخارج توقفت الخطوات قليلا وكأنها تنتظر شيئا، ثم جاء الصوت نفسه مرة اخرى، وحين صمت اخذت ميريام تترجم بصوت مرتجف هامس:
"انه يسأل لماذا أنا في الصالون حتى هذه الساعة المتأخرة ؟".
وعادت الخطوات تتجه نحو الغرفة، وكان الباب مواربا، وقالت ميريام بالانكليزية :
-" تعال يا دوف، يوجد ضيوف يرغبون برؤيتك".
وانفتح الباب بشيء من البطء، ولاول وهلة لم يصدق، فقد كان الضوء عند الباب باهتا، ولكن الرجل الطويل القامة خطا الى الامام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبعته بيده.
وقفز سعيد واقفا كأن تيارا كهربائيا قذفه عن المقعد، ونظر نحو ميريام وهو يقول بصوت متوتر :
"هذه هي المفاجأة ؟ اهذه هي المفاجأة التي اردت منا انتظارها ؟".
واستدارت صفية نحو النافذة، تخفي وجهها براحتيها وتنشج بصوت مسموع.
اما الرجل الطويل القامة فقد ظل مسمرا امام الباب، ينقل بصره نحو الثلاثة محتارا، وعندها فقط قامت (ميريام)، وقالت للشاب بهدوء مفتعل وبطيء :
-" اريد ان اقدم لك والديك… والديك الاصليين".
وخطا الشاب الطويل القامة خطوة بطيئة الى الامام، وتغير لونه فجأة وبدا انه فقد ثقته بنفسه دفعة واحدة. ثم نظر الى بزته وعاد ينظر الى سعيد، الذي كان واقفا ما يزال امامه يحدق اليه. وأخيرا قال الشاب بصوت خفيض :
-" أنا لا أعرف أما غيرك، أما أبي فقـد قتل في سـيناء قبل 11 سنه، ولا اعرف غيركما".
وعاد سعيد الى الوراء خطوتين، ثم جلس مكانه وأخذ راحة صفيه بين يديه، وادهشه – بينه وبين نفسه – كيف استطاع ان يسترد هدوءه بهذه السرعة. ولو قال له اي انسان قبل خمس دقائق فقط انه سيكون جالسا هناك بمثل هذا الهدوء لما صدقه، أما الان فقد تغير كل شيء.
ومضت لحظات بطيئة، كان كل شيء فيها ساكنا تماما. ثم اخذ الشاب الطويل القامة يخطو ببطء : ثلاث خطوات نحو الباب ثم عودة نحو وسط الغرفة. وضع قبعته على الطاولة، وبدت قرب المزهرية الخشبية وريش الطاوس فيها شيئا غير مناسب، والى حد ما مضحكا. وفجأة انتاب سعيد شعور غريب بأنه ما زال يشاهد مسرحية معدة سلفا بدقة، وتذكر مشاهد درامية مفتعلة في افلام رخيصة تستدر توترا تافها.
وتقدم الشاب من ميريام، وأخذ يقول لها بصوت اراد منه أن يكون قاطعا ونهائيا ومسموعا تماما :
-"
وماذا جاءا يفعلان ؟ لا تقولي انهما يريدان استرجاعي !".
وقالت ميريام بصوت مماثل :
-"
اسألهما".
واستدار كقطعة خشب، كأنه ينفذ امرا، وسأل سعيد :
-"
ماذا تريد يا سيدي ؟".
وظل سعيد محتفظا بهدوئه الذي بدا له لحظتذاك مجرد قشرة رقيقة تخفي لهبا كامنا، وبصوت خفيض قال :
-"
لاشيء. لا شيء.. انه مجرد فضول، كما تعلم".
وخيم صمت مفاجيء، فيما ارتفع صوت صفيه بالنشيج وكأنه صادر من مقاعد متفرج هش التأثر. ونقل الشاب بصره مرة اخرى : من سعيد الى ميريام ثم الى قبعته المتكئة على المزهرية، وارتد الى الوراء كأن شيئا دفعه بقوة نحو المقعد المجاور لميريام،وجلس فيه وهو يقول :
-"
لا. ذلك شيء مستحيل، لا يصدق..".
وسأل سعيد، بهدوئه المفاجيء :
-"
أنت في الجيش ؟ من تحارب ؟ لماذا ؟".
وانتفض الشاب واقفا فجأة :
-"
ليس من حقك ان تسأل هذه الاسئلة. انت على الجانب الاخر".
"انا ؟ انا على الجانب الاخر".
وضحك بقوة، وشعر بأنه عبر تلك القهقهة العالية كان يدفع بكل ما في صدره من اسى وتوتر وخوف وفجيعة الى الخارج، ورغب فجأة في ان يظل يقهقه ويقهقه حتى ينقلب العالم كله، او ينام، او يموت، او يندفع خارجا الى سيارته، الا الا ان الشاب قاطعه بحدة :

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.