وهم الثقافة ..ثقافة الوهم
أيمن بكر
في حوار صحفي قال مسئول ثقافي كبير إنه يريد تعليم " الثقافة " لعامة الناس، وفي إحدى محاضرات الأدب الشعبي بالجامعة سمعت الأستاذ يقول : إن الطبقات الشعبية هي تلك التي تعاني من ضعف أو انعدام " الثقافة "، وللوهلة الأولى لم أستطع فهم كلمة " ثقافة " في الجملتين السابقتين .
هناك أكثر من معنى لكلمة " الثقافة " ؛ ففي تعريفها الأكثر شمولا هي ذلك الكل المركب من العادات والأعراف والتقاليد والأفكار والقيم الأخلاقية التي تميز جماعة معينة ، في لحظة تاريخية معينة، هذه الأفكار والتقاليد …الخ هي التي تتحكم في طرائق استقبال أفراد هذه الجماعة للعالم وكذلك تتحكم في أساليب فعلهم فيه ، وتسعى الجماعة لتوريثها من جيل لآخر . هذا التعريف المختزل – والمعروف بكل تفاصيله لدى أساتذة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية – يبدو غير مستقيم مع فكرة تعليم "الثقافة" للعامة التي وردت في كلام المسئول الكبير ، كما لا يبدو متسقا مع تصور الأستاذ الجامعي عن " ثقافة " الطبقات الشعبية . ومن الواضح أن مفهوم الثقافة المضمن في كلامهما يشير إلى منظومة محددة من أنماط السلوك والفنون والآداب التي تميز مجموعة طبقية بعينها هي ما يطلق على الفرد فيها لفظ " مثقف " ، مثلا هؤلاء الذين يذهبون للأوبرا ويقرأون روايات مترجمة ، ويتجادلون في النقد ويستطيعون التعرف على تفاعلات الأفكار في أذهانهم والتعبير عن بعض العمليات العقلية التي تنتج من هذه التفاعلات باللغة الألفبائية .
بالمعنى الذي أشرت إليه أولا لكلمة الثقافة يمكن اعتبار جميع أفراد المجتمع مثقفين ، فكل منهم حامل لثقافة جماعته التي تربى فيها وورث عاداتها وأفكارها …الخ ، وفي هذا السياق لا يمكننا أن نميز فردا أو مجموعة أفراد بوصفهم ال " مثقفين " بألف ولام العهد المميزة لهم عن غيرهم من " غير المثقفين " ، كما لا يبدو ممكنا أن نركن إلى أحكام قيمة بين الثقافات المختلفة التي يتشكل منها تجمع حضاري معين . أما المعنى الثاني لكلمة المثقفين – كما يمكن أن نفهم من كلام المسئول – فيبدو مرادفا لمفهوم " النخبة " الذي يوحي بالتميز الطبقي/ المادي والإعلامي ، الناتج من خصوصية المعارف والسلوكيات التي تميز ثقافة فئة اجتماعية بعينها ؛ وهو بذلك يبدو مفهوما ساعيا لتسييد مفاهيم وأفكار وعادات سلوكية معينة باعتبارها " الثقافة " المثال ، أو النموذج الأكثر رقيا وتحضرا للكائن البشري ، أو – في أحسن الأحوال – الثقافة " الطليعية " القادرة على قيادة المجتمع ككل لوضعيات أفضل على المستويات كافة .
وما أراه هو أن الثقافة بالمعنى النخبوي الساعي للتمييز بين ثقافات لاتمايز بينها هو وهم عميق درجنا على التسليم به حتى اكتسب قوة الحقيقة ، وهم ينتج عنه – فيما أرى – مجموعة خطيرة من المفاهيم والعادات الحضارية ؛ منها على سبيل المثال فكرة الجماعة الخبيرة صاحبة الحق في الحكم على الأفكار والإبداعات المختلفة من منظور مجموعة من الأفكار والقيم الأخلاقية التي تدعي الحياد والموضوعية باعتبارها الأفكار والقيم " الثقافية " الأفضل والأكثر تحضرا ، وهو ما أراه مبررا لأفعال مصادرة الفكر والإبداع التي أصبحت مميزة لثقافتنا المعاصرة . يتضح الوهم أكثر إذا ما استعدنا فكرة أن الأفكار والقيم الأخلاقية لا توجد في الفراغ ، وإنما هي نتاج " ثقافة " – بالمعنى الأشمل للكلمة – إذ سنكتشف أن ما يحدث ما هو إلا تحكيم مجموعة من القيم والأفكار المميزة لثقافة بعينها – بحسب الاتفاق التاريخي للنخبة المستفيدة – في غيرها من القيم والأفكار التي تميز باقي ثقافات المجتمع ، وهو ما يقود بدوره إلى تسييد قيم وأعراف النخبة وإضفاء قيمة وهمية عليها ، وتعميد " وهم الثقافة " باعتباره ممثلا ل " الثقافة " .
غير أن هناك معنى آخر لكلمة ثقافة ، ومثقف يمكنه – ظاهريا على الأقل – أن يحل التعارض السابق ، ويحقق مفهوما أكثر حيادية للكلمة ، هذا المفهوم يركز على قدرة البعض على التعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم وقيمهم الثقافية باستخدام اللغة ، وكذلك توجههم نحو التعرف على قيم الثقافات الأخرى وأعرافها وعاداتها وفنونها وعلومها …الخ . هذا المعنى يجعل من بعض أفراد المجتمع حاملين لثقافات متنوعة يمكن الاستفادة منها بتعليمها لمن يرغب ، أو باستخدامها للمقارنة بين الثقافات أو التفاعل بينها ، أو ربما استخدام أفكار من ثقافة لتوصيف بعض مشاكل أو مميزات ثقافة أخرى . هذا المعنى للمثقف أو الثقافة لا يتضمن في ذاته حكم قيمة ، فالمثقف بهذا المعنى هو صاحب مهنة لها أدوار محددة يمكن أن تلعبها في إثراء واقع حضاري معين ، دون أن يكون لهذه المهنة قيمة زائدة تصل حد التقديس ، أو تحويل المتعلم إلى عبد للمعلم كما تعودنا أن نسمع ( انظر ما كتبه فيصل دراج حول هذه الفكرة في ثقافتنا / سطور ، العدد 62 ) ، وفي هذه الحالة يمكننا أن نترك إلى الأبد تعبير "مثقف " ذو الطبيعة التعميمية ، لنصف بصورة أكثر دقة طبيعة المجال المعرفي الذي ينتمي إليه إنسان بعينه ، كأن نقول هذا فيلسوف ، وهذا ناقد مسرحي ، وذاك أدبي .
هذه المفاهيم الشائكة للثقافة والمثقف لم تشكل يوما تيارا من الجدل العميق الفاعل في الثقافة العربية ، وإنما ظلت مفاهيم متغيرة ومتحورة بصورة تحتية تقوم غالبا على تمجيد أفكار بعينها بهدف تحقيق مصالح النخبة والحفاظ على سيادتها ، بما أنشا بنية من السلوكيات والأداءات الفكرية والكلامية والحركية الصلبة من الخارج والفارغة من الداخل ؛ أي غير المنطوية على معرفة حقيقية ، سواء كانت هذه المعرفة نظرية ، أم المعرفة المفترضة بالقيم الثقافية التي ينتمي إليها من يحصل على لقب مثقف . تلك البنية أصبحت أشبه ببطاقة العضوية التي تضمن لممتلكها دخول نادي النخبة / فرع " ثقافة " ، وهي ما أراه معبرا عن مفهوم الثقافة لدى أستاذ الجامعة الذي نفى الثقافة على إطلاقها عن الطبقات الشعبية التي لا تعرف شيئا عن بنية الأداء والسلوك السابقة .
أنها ثقافة الوهم ؛ وأقصد تحديدا ثقافة " وهم الثقافة " ، أو بعبارة أخرى ، ثقافة من يتخيل في نفسه القدرة على التعبير عن أفكار الثقافة وقيمها وإبداعاتها رغم كونه لا يستطيع ذلك فعلا ولكنه يستطيع – في المقابل – أن يمارس مفردات البنية السلوكية والكلامية السابقة؛ بمعنى أنه صاحب معرفة نظرية وعملية بالبنية الفارغة من المعرفة تلك التي تهدف بالأساس إلى إعطاء الإيحاء بالمعرفة ، إنها ثقافة الوهم التي تسيطر على معظم " مثقفينا "فتقف بينهم وبين فعل المعرفة الحقيقي ، ثقافة الوهم التي دعت أستاذ الأدب الشعبي أن يصف – مستريح الضمير – الطبقات الشعبية بأنها منعدمة الثقافة . ثقافة الوهم التي أوحت للمسئول الكبير أن يطابق بين " الثقافة " وقيم طبقة بعينها وسلوكياتها ، ويعلن في هدوء خاطر أنه يسعى لتعليم "الثقافة" للعامة . إنها من زاوية ثانية ثقافة الانفصال عن الثقافة بمعناها العام ، فكلما ازدادت معرفة الفرد ببنية الوهم التي يمكنها أن تكسبه لقب " مثقف " ازداد انفصاله عن ثقافته الحقيقية ، وكلما ازداد الانفصال الأخير التهب تمسك ذلك " المثقف " بعناصر بنية الوهم التي تمنحه التميز- الموهوم أيضا – والتخدير اللازمين لاستمرار الحياة .
وتسلم يدك