تعامل الفاتحين مع مدن بلاد المغرب القديمة
ذكر النويري (ج22 ص197) أنه في سنة 27 ه/649 م أنفذ عثمان بن عفان جيشا، من مختف القبائل العربية، لأفريقية: من بني عدي وبني أسد وبني سهم وجهينة ومزينة وضمرة وغفار وفزارة، أضاف لها ابن عبد الحكم (ص38): مهرة وغنث وميدعان. وقدر أبو العرب (ص14) إمدادات المدينة المنورة وحدها بعشرين ألف رجل.
والظاهر أن هذه الفسيفساء القبلية لم تكن كلها من الرجال القادرين على حمل السلاح (الجند)، فالنويري يذكر (ص178) أن عثمان أعان «الجيش بألف بعير من ماله يحمل عليها ضعفاء الناس» مما يجعلنا نتساءل، منذ البداية، عن محل هؤلاء "الضعفاء" من عمل حربي يقصد به الغزو والفتح؟ وبالتالي نضع احتمالا مؤداه أن العرب، انطلاقا من عملياتهم العسكرية الأولى بالمشرق ضد الفرس والروم، كانوا يتوقعون أن أفريقية لا بد وأن تؤول إليهم لا محالة، وربما كانوا يتوقعون سهولة الفتح أيضا؟
وإذا كانت العديد من الدراسات قد أنجزت حول الموضوع (سعد زغلول، أندري جوليان، حسين مؤنس…) واتفقت كلها على أن عملية الفتح كانت عسيرة جدا وتطلبت مدة زمنية طويلة، فإننا سنحاول معالجتها من زاوية أخرى تركز أساسا على موقع المدن من هذه العملية.
انطلق الفتح الإسلامي لبلاد المغرب من مدينة تم تشييدها حديثا في مصر وهي الفسطاط، واتخذها قاعدة لانطلاق العمليات العسكرية اللاحقة والعودة إليها، وهو ما نلمسه مثلا بعد إتمام فتح طرابلس وبرقة حيث «عاد عمرو بن العاص… إلى مصر ليطمئن على أحوالها» (سعد زغلول ص97) خاصة وأن الوجود الإسلامي بمصر لم يكن قد رسخ أقدامه بها، يدلنا على ذلك ثورة الإسكندرية وغدر الروم بالعرب بعد سنتين من وفاة المقوقس (الطبري ج2 ص594). ورغم أن عمر بن الخطاب كان قد رفض تقسيم المدن غنيمة عندما طلب منه أبو عبيدة ذلك، وأمره أن يأخذ من أهل الذمة الجزية فقط: «فإذا أخذت منهم الجزية فلا شيء لك عليهم ولا سبيل» (حميد الله1987 ص483)، فإننا نجد ابن العاص صالح أهل انطابلس (برقة) على الجزية «على ثلاثة عشر ألف دينار، يبيعون فيها من أبنائهم ومن اختاروا بيعه» (ابن عبد الحكم ص30، الطبري ج2 ص534) ، وهو نفس السلوك الذي سلكه مع لواتة وشرط عليهم أن يبيعوا أبناءهم وبناتهم فيما عليهم من الجزية، «قال الليث (بن سعد) فلو كانوا عبيدا ما حل له ذلك منهم» (البلاذري ص325)، ثم كتب ابن العاص إلى عمر بن الخطاب يعلمه أنه ما بين برقة وزويلة قد أسلم جميع أهلها وحسن إسلامهم: «فقد أدى مسلمهم الصدقة وأقر معاهدهم بالجزية» (البلاذري ص315).
وهكذا، ورغم أنها ليست بأفريقية «ولكنها مفرقة غادرة مغدور بها» – على ذمة ابن عبد الحكم (ص33) والبلاذري (ص316) اللذان ينسبان القول لعمر بن الخطاب – فإن العمل التاريخي كان لا بد أن يسير إلى نهايته المنطقية، نقصد مسيرة الفتوح التي تواصلت زمن عقبة، بعد أن توقفت مدة بسبب الأحداث التي هزت بلاد المشرق عقب مقتل الخليفة الراشدي الثالث. والظاهر أن سياسة عقبة تجاه المدن المفتوحة قد اتسمت بالعنف: فبعد فتحه مدينة "ودان" جذع أذن شيخها (ابن عبد الحكم ص51)، وعندما فتح مدينة "جرمة" قام بسحب ملكها فما وصل إلى عقبة حتى كان يبصق الدم (نفسه)، بالإضافة إلى أن هذا الفاتح قام بقطع إصبع ملك "كوار" «حتى لا يفكر في الخروج على العرب»، ثم خرب "خاوار" وقتل المقاتلة وسبى الذراري والنساء… (نفسه ص53). وفي ولايته الثانية، زمن خلافة يزيد بن معاوية، (البلاذري ص320) قام بتخريب مدينة "دكرور" (انتقاما من أبي المهاجر) (القيرواني ص8)، ثم حاصر مدن: مجانة وباغاية وتيهرت، بل حاصر أعظم مدن الروم وهي "أذنة" وكان حولها 360 قرية كلها عامرة، ثم أخذ طريقه نحو طنجة (القيرواني ص10… وقارن مع النويري ص191)، ولعل هذا ما دفع أندري جوليان (ج2 ص20) للقول بأن عقبة لم يعمل على فتح «المراكز المحصنة شمال الصحراء، بل توجه مباشرة إلى طنجة»، وهي الملاحظة التي سجلها سعد زغلول أيضا (ص161) عندما قال: «وترك عقبة الروم يعتصمون بالحصون والقلاع لا يبرحونها، وأوغل في الغرب إلى أن نزل على طنجة». وبمتابعة النصوص في المصادر(القيرواني ، النويري)، تتأكد لنا فعلا هذه الملاحظة، إذ خلال المعارك التي دارت بين عقبة وخصومه (الروم/البربر) فإن الفاتح العربي كان يكتفي بتحقيق الانتصار الذي يتم غالبا خارج أسوار المدن ولا يهتم بالمنهزمين الذين كانوا يلجؤون إليها ويتحصنون بأسوارها (كما حصل مثلا عند حصار باغاية ومسيلة وتاهرت…)، أي أنه لم يحسم الصراع نهائيا لصالحه، وهذا خطأ استراتيجي ارتكبه عقبة عندما أغفل مسألة إخضاع المدن، وهو ما يفسر استعدادها الكامن للثورة، وذلك ما لم تتأخر في القيام به فعلا، فالنويري يذكر أن عقبة في طريق عودته من المغرب الأقصى سار يريد تهودة وبادس «فأغلق الروم حصونهم دونه وشتموه ورموه بالنبل والحجارة وهو يدعوهم إلى الله» (النويري ص193، حيث توحي هذه العبارة بالضعف الشديد الذي أصبح عليه عقبة) وحيث انتهى الأمر، كما هو معلوم، بمصرعه قرب تهودة سنة 63 ه/683 م.
نفس السلوك نهجته العديد من المدن في عهد الفاتح الذي جاء من المشرق خصيصا للانتقام لعقبة، وهو زهير بن قيس البلوي: فقد هاجم البيزنطيون برقة مستغلين انشغال زهير بحرب كسيلة وتمركزوا بمدينة درنة، فلما هاجمهم زهير، في قلة من جنده، لقي مصرعه عند أسوارها (ابن عبد الحكم ص66، البلاذري ص321).
هكذا نلاحظ أن سياسة الفاتحين الأوائل لم تتميز باستراتيجية دقيقة تجاه المدن (العروي1982 ص80)، بل يمكن أن نقول بأنها كانت عشوائية تتبع خطا واحدا باتجاه الغرب، ولا يهم إن كانت المناطق التي تم عبورها قد خضعت فعلا للإسلام أم لا، وكأن معيار الفتح إذاك هو إلى أين وصل هذا الفاتح أو ذاك وليس هل خضعت له المناطق المفتوحة، وعلى رأسها المدن، بطريقة عملية؟ فما الذي طرأ على هذه السياسة مع مجيء حسان بن النعمان؟
أهم ما يبرز في السياسة الجديدة بخصوص المدن، هو الصراع الإسلامي/البيزنطي حول قرطاجة وتخريبها، ثم الصراع الإسلامي/البربري ومسألة تخريب المدن والقرى الأفريقية (في صراع حسان مع الكاهنة).
فقد دخلت قرطاج تحت حكم البيزنطيين سنة 533 م. وظلت تابعة لهم إلى غاية مقدم حسان بن النعمان، فوجه إليها حملة سنة 74 ه «ولم يكن العرب قد حاربوها من قبل» (سعد زغلول ص181): فما هو السبب الذي جعل العرب يسكتون على مدينة عريقة في أهمية قرطاج طيلة عملياتهم السابقة، رغم أنها ظلت «مدينة عظيمة شامخة البناء» على حد قولهم (النويري ص179)؟
الواقع أن المصادر لا تمدنا بتفاصيل دقيقة حول هذه المسألة، وإن كنا نجد إشارات متفرقة في بعضها تعطينا بعض المعلومات عن علاقة العرب بقرطاجة قبل مجيء حسان، فالنويري يذكر(ص184) أن أهل قرطاجة رفضوا تقديم الضريبة لصاحب القسطنطينية (هرقل) بدعوى أن ما عندهم قد أخذه العرب منهم. لكننا لا نعتقد أن المدينة استمرت في دفع هذه الإتاوة خاصة مع اضطراب أحوال المغرب بعد مقتل عقبة، وإلا لماذا سيغزوها حسان أصلا؟ مما يجعلنا نقول بأنها ظلت تابعة للروم إلى غاية فتحها، وأنها كانت محل نزاع بينهم وبين العرب: فقد حاصرها حسان وضربها بالمنجنيق واستولى عليها سنة 74 ه/693 م (جوليان ج2 ص25)، لكن الإمبراطور البيزنطي ليونسيوس Leontios جهز أسطولا نجح في استعادتها، مستغلا انهزام حسان أمام الكاهنة (في مواجهتهما الأولى) عن طريق حملة قادها البطريك يوحنا سنة 78 ه/697 م(سعد زغلول ص193…)، قبل أن يفتكها حسان من جديد «سنة 698 م، حيث وجدها شبه مخربة» على حد تعبير ش.أ. جوليان(ج2 ص25)، وهو الأمر الذي اختلف معه فيه سعد زغلول الذي يرى (ص195) بأن حسان هو الذي خربها، وتؤكده بعض المصادر العربية: «فهدم المسلمون منها (قرطاجة) ما أمكنهم» (النويري ص196)، مما يجعلنا نفترض أن مقاومة المدينة كانت شديدة، وأنها كانت تشكل تهديدا مستمرا للعرب ما دامت قائمة، خاصة وأنها مدينة عريقة بثقلها التاريخي والحضاري الطويل وهو ما أدركه حسان فأمر بتخريبها. وعليه فنحن نشك في النتيجة التي توصل إليها جوليان (ج2 ص27) عندما خلص إلى أن فتح المدن الأفريقية العريقة لم يتطلب أي مجهود يذكر: «فقد كان قيام حكومة نظامية ضروري لحياتهم، وقضاء شؤونهم أهم في نظرهم من الحرية»: فأي "شؤون" هذه التي تسمح لأصحابها بتقديم مدينتهم لتخريبها؟
أما المسألة الثانية التي تبرز في فترة فتوحات حسان فهي تخريب المراكز الحضرية، أثناء حروبه مع الكاهنة، وهي مسألة ركزت عليها المصادر كثيرا، ونسبتها الدراسات المحدثة إلى هذا الطرف أو ذاك. ويهمنا جدا أن نفهم حيثيات هذا التخريب، سواء أكان من اقتراف العرب كما اعتقد بروفنصال، أو من عمل الكاهنة وجنودها وهو الرأي الذي تبعه جمهور المؤرخين العرب.
تقول الرواية العربية (القيرواني ص34، النويري ص197، البلاذري ص321، ابن عذاري ج1 ص36…)، وهي تكاد تتفق على الخبر عدا بعض الاختلافات الطفيفة، بأن أفريقية كانت «من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا وقرى متصلة… (وأن الكاهنة) فرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها وهدموا الحصون وقطعوا الأشجار ونهبوا الأموال» (النويري ص198)، ذلك أن العرب في اعتقاد الكاهنة: إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب (النويري ص98، الدباغ1968 ص64)، بينما يريد منها البربر المزارع والمراعي، وتضيف الرواية أن المنطقة كانت كلها قرى ومدنا عامرة على مسيرة ألفي ميل وقد تخرب ذلك كله.
وبغض النظر عن المبالغة التي يحملها هذا الرقم، فإن ذلك لا يمنعنا من إبقاء افتراض عظمة الخراب الذي لحق بالمنطقة، ولو أنه لم يصل إلى هذه "الألفي ميل"! كما نفترض أيضا أن الكاهنة قد تنبهت لسياسة حسان الرامية للتركيز على فتح المدن، ولو أنها اعتقدت أن "العرب" يطلبون المدائن ولم تدرك أن هذه السياسة استحدثت مع حسان فقط. وكيفما كان الأمر فالراجح أنه كان هناك "خراب" لبعض المدن، كما أن حسانا قد خرج منتصرا من هذه الحرب – رغم انهزامه في جولتها الأولى – وقتل العديد من البربر، بمن فيهم الكاهنة، وسبى منهم سبيا بعث به إلى عبد العزيز، والي مصر، (البلاذري ص321) ولعل تخريب الكاهنة لبلاد البربر هو ما جعل سعد زغلول يقول (ص191) بأن الكثير منهم (البربر) قد رحبوا بحسان وأعانوه بالمال والرجال في هجومه الثاني الذي انتصر فيه.
لكن ماذا لو ناقشنا الافتراض الثاني الذي طرحه بروفنصال (1954ص212)، والذي ذهب إلى عكس ذلك تماما عندما افترض أن التخريب كان من عمل العرب لا البربر، فهل يكون حسان قد أحدث أمرا مبتدعا في تاريخ الإسلام؟
تشير كتب السيرة (ابن هشام م2 ص193، العسقلاني1989 ص518…) إلى أنه أثناء صراع النبي عليه السلام مع يهود بني النضير قام هؤلاء بتخريب ديارهم، وفي ذلك نزلت الآية ‹﴿فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون ديارهم بأيديهم… ﴾› الحشر/2. كما أن النبي أمر بتقطيع نخيلهم وحرقه، وفي ذلك يقول القرآن الكريم ‹﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها… ﴾› الحشر/5، ثم قام النبي بعد ذلك بإجلائهم عن أرضهم وعمرها المسلمون.
وفي صراعه عليه السلام مع بني قريظة نجده ينزل في حكمه عليهم عند الحكم الذي أصدره سعد بن معاذ: «فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء»، وقد بلغ عدد اليهود الذين ضربت أعناقهم في ذلك اليوم ما بين 800 و900، وأقل ما قيل في ذلك 600 أو 700 يهودي (ابن هشام م2 ص240…).
فإذا كان الرسول عليه السلام قد سن هذه السنة لضرورة حربية (تتمثل في تخوفه من العودة إلى الوضع الحرج الذي عاشته يثرب في تحالف الأحزاب مع بني قريظة)، وهي سياسة دعمها النص القرآني عندما قال: ‹﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين، وما أفاء الله على رسوله فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير﴾› الحشر/5-6. فلماذا نستغرب إذا فعل حسان بن النعمان نفس العمل وهو كغيره من القادة المسلمين، ملزم بالمبدأ الإسلامي: "الإسلام أو الجزية أو الحرب"، وقبل ذلك ملزم بأخذ العبرة من النموذج النبوي، وعلى كل حال فهذا الافتراض من أساسه يفتقر للنصوص التي تدعمه، وهي النصوص، نفسها، التي تؤكد أن حسان خرب قرطاجة بعد فتحها، مما يرغمنا على الإعراض عن افتراض ل.بروفنصال المذكور.
خراب المدن، مثل الكوارث الطبيعية، «يتضمن معنى العقاب والمدينة الإسلامية ستأتي لتجدد العمران بعد الخراب، إلا أن الدورة ستستمر إلى مجيء الساعة: فحيثما فسدت الأخلاق وساد الجور وعمت الفواحش كان ذلك إيذانا بحلول الخراب، وهو ما سيسجله ابن خلدون ضمن فصل من مقدمته يحمل عنوان: الظلم مؤذن بخراب العمران» (السبتي 1992 ص19…).
هكذا حسم حسان الصراع داخل المدن وليس البوادي، دون أن يعني ذلك أن البوادي كانت سهلة الفتح، وبالتالي فنحن لا نقلل من دور البادية في هذه الأحداث، لكن البوادي غالبا ما تتبع لمركز حضري معين، وحسم الصراع ينتهي بهذا المركز حتى لو افترضنا أنه يبدأ خارجه. وفي الثورات والانتفاضات نلاحظ أنه عندما تبدأ هذه الانتفاضات في مناطق جبلية أو صحراوية نائية، فإنها وإذ تتقوى تنزل لمهاجمة المدينة باعتبارها مركزا للسلطة.
مع عزل حسان سنة 86 ه/705 م، تكون بلاد المغرب قد خضعت نظريا للإسلام، أما عن حملات خلفه موسى بن نصير على المغربين الأوسط والأقصى فكانت «أشبه ما تكون بنزهات عسكرية… فالكتاب لا يتكلمون إلا عن أعداد خيالية من السبي والأسرى تصل في بعض المدن مائة ألف رأس وأكثر» (سعد زغلول ص209، الناصري ج1 ص96) ولعل ذلك ما سيشجع طارق بن زياد على فتح الأندلس لاحقا.
وعليه فإن الاضطرابات التي ستشهدها المنطقة فيما بعد، خاصة مع ثورات الخوارج، لم تكن تجسيدا للصراع العربي/ الإسلامي في مواجهة الروم/البربر، بقدر ما كانت تمثل انشقاق المسلمين على أنفسهم ببلاد المغرب.